كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



بَلْ كَانَتْ حَيَاتُهُ مِنْ جِنْسِ حَيَاةِ الْبَهَائِمِ. وَلَمْ يَكُنْ مَيِّتًا عَدِيمَ الْإِحْسَاسِ: كَانَ فِي الْآخِرَةِ كَذَلِكَ. فَإِنَّ مَقْصُودَ الْحَيَاةِ: هُوَ حُصُولُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْحَيُّ وَيَسْتَلِذُّ بِهِ وَالْحَيُّ لابد لَهُ مِنْ لَذَّةٍ أَوْ أَلَمٍ. فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ لَهُ اللَّذَّةُ: لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَقْصُودُ الْحَيَاةِ فَإِنَّ الْأَلَمَ لَيْسَ مَقْصُودًا. كَمَنْ هُوَ حَيٌّ فِي الدُّنْيَا وَبِهِ أَمْرَاضٌ عَظِيمَةٌ لَا تَدَعُهُ يَتَنَعَّمُ بِشَيْءِ مِمَّا يَتَنَعَّمُ بِهِ الْأَحْيَاءُ. فَهَذَا يَبْقَى طُولَ حَيَاتِهِ يَخْتَارُ الْمَوْتَ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ طَبْعِ النَّفْسِ الْمُلَازِمِ لَهَا: وُجُودُ الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ إذْ هُوَ حَارِثٌ هَمَّامٌ. فَإِنْ عَرَفَتْ الْحَقَّ وَأَرَادَتْهُ وَأَحَبَّتْهُ وَعَبَدَتْهُ: فَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهَا. وَإِلَّا فَهِيَ بِطَبْعِهَا لابد لَهَا مِنْ مُرَادِ مَعْبُودٍ غَيْرِ اللَّهِ. وَمُرَادَاتٍ سَيِّئَةٍ تَضُرُّهَا. فَهَذَا الشَّرُّ قَدْ تَرَكَّبَ مِنْ كَوْنِهَا لَمْ تَعْرِفْ اللَّهَ وَلَمْ تَعْبُدْهُ. وَهَذَا عَدَمٌ لَا يُضَافُ إلَى فَاعِلٍ وَمِنْ كَوْنِهَا بِطَبْعِهَا لابد لَهَا مِنْ مُرَادٍ مَعْبُودٍ. فَعَبَدَتْ غَيْرَهُ. وَهَذَا هُوَ الشَّرُّ الَّذِي تُعَذَّبُ عَلَيْهِ. وَهُوَ مِنْ مُقْتَضَى طَبْعِهَا مَعَ عَدَمِ هُدَاهَا. وَالْقَدَرِيَّةُ يَعْتَرِفُونَ بِهَذَا جَمِيعِهِ. وَبِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مُرِيدًا. لَكِنْ يَجْعَلُونَ الْمَخْلُوقَ كَوْنَهُ مُرِيدًا بِالْقُوَّةِ وَالْقَبُولِ. أَيْ قَابِلًا لَأَنْ يُرِيدَ هَذَا وَهَذَا.
وَأَمَّا كَوْنُهُ مُرِيدًا لِهَذَا الْمُعَيَّنِ وَهَذَا الْمُعَيَّنُ: فَهَذَا عِنْدَهُمْ لَيْسَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ وَغَلِطُوا فِي ذَلِكَ غَلَطًا فَاحِشًا. فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ هَذَا كُلِّهِ. وَإِرَادَةُ النَّفْسِ لِمَا تُرِيدُهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَفِعْلِهَا: هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. وَهُوَ الَّذِي أَلْهَمَ النَّفْسَ- الَّتِي سَوَّاهَا- فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا. أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا». وَهُوَ سُبْحَانَهُ: جَعَلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَهُ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِهِ. وَجَعَلَ فِرْعَوْنَ وَآلَهُ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ. لَكِنَّ هَذَا لَا يُضَافُ مُفْرَدًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِوَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ الغائية وَمِنْ جِهَةِ سَبَبِهِ وَعِلَّتِهِ الْفَاعِلِيَّةِ. أَمَّا الغائية: فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا خَلَقَهُ لِحِكْمَةِ هُوَ بِاعْتِبَارِهَا خَيْرٌ لَا شَرٌّ. وَإِنْ كَانَ شَرًّا إضَافِيًّا. فَإِذَا أُضِيفَ مُفْرَدًا: تَوَهَّمَ الْمُتَوَهِّمُ مَذْهَبَ جَهْمٍ: أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الشَّرَّ الْمَحْضَ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ لِأَحَدِ لَا لِحِكْمَةِ وَلَا رَحْمَةٍ. وَالْأَخْبَارُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ تُبْطِلُ هَذَا الْمَذْهَبَ.
كَمَا أَنَّهُ إذَا قِيلَ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ يَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ: كَانَ هَذَا ذَمًّا لَهُمْ وَكَانَ بَاطِلًا. وَإِذَا قِيلَ: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَيَقْتُلُونَ مَنْ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ: كَانَ هَذَا مَدْحًا لَهُمْ وَكَانَ حَقًّا. فَإِذَا قِيلَ: إنَّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَكِيمٌ رَحِيمٌ. أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَأَتْقَنَ مَا صَنَعَ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا. وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ. وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْهِ. بَلْ لَا يَفْعَلُ إلَّا خَيْرًا. وَمَا خَلَقَهُ مِنْ أَلَمٍ لِبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ أَوْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ الْمَذْمُومَةِ: فَلَهُ فِيهَا حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَنِعْمَةٌ جَسِيمَةٌ- كَانَ هَذَا حَقًّا. وَهُوَ مَدْحٌ لِلرَّبِّ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا إذَا قِيلَ: إنَّهُ يَخْلُقُ الشَّرَّ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا مَنْفَعَةَ لِأَحَدِ. وَلَا لَهُ فِيهَا حِكْمَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ. وَيُعَذِّبُ النَّاسَ بِلَا ذَنْبٍ: لَمْ يَكُنْ هَذَا مَدْحًا لِلرَّبِّ وَلَا ثَنَاءً عَلَيْهِ. بَلْ كَانَ بِالْعَكْسِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَرُّ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ إبْلِيسَ. وَبَسْطُ الْقَوْلِ فِي بَيَانِ فَسَادِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ مَا فِي خَلْقِ جَهَنَّمَ وَإِبْلِيسَ وَالسَّيِّئَاتِ: مِنْ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَمَا لَمْ نَعْلَمْ أَعْظَمَ مِمَّا عَلِمْنَاهُ. فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَخَيْرُ الْغَافِرِينَ. وَمَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ. الْأَحَدُ الصَّمَدُ. الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. الَّذِي لَا يُحْصِي الْعِبَادُ ثَنَاءً عَلَيْهِ. بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ الَّذِي لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ. وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالْحُبَّ وَالرِّضَا لِذَاتِهِ وَلِإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْمَدَ لِمَا لَهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْمَحَامِدِ وَالْإِحْسَانِ إلَى عِبَادِهِ. هَذَا حَمْدُ شُكْرٍ وَذَاكَ حَمْدٌ مُطْلَقًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا- فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ- مَا قِيلَ: مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. يَسْتَحِقُّ أَنْ يَحْمَدُوهُ وَيَشْكُرُوهُ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ آلَائِهِ. وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّجْمِ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} وَفِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ يَذْكُرُ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} وَنَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ يَقُولُ عَقِبَ ذَلِكَ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْهُمْ الزَّجَّاجُ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ. لِأَنَّهَا كُلَّهَا يُنْعِمُ بِهَا عَلَيْكُمْ فِي دَلَالَتِهَا إيَّاكُمْ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَفِي رِزْقِهِ إيَّاكُمْ مَا بِهِ قِوَامُكُمْ. وَهَذَا قَالُوهُ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ.
وَقَالُوا فِي قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} فَبِأَيِّ نِعَمِ رَبِّك الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ تَتَشَكَّكُ؟ وَقِيلَ: تَشُكُّ وَتُجَادِلُ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُكَذِّبُ؟. قُلْت: قَدْ ضَمَّنَ {تَتَمَارَى} مَعْنَى تُكَذِّبُ. وَلِهَذَا عَدَّاهُ بِالتَّاءِ. فَإِنَّ التَّمَارِي: تَفَاعُلٌ مِنْ الْمِرَاءِ. يُقَالُ: تَمَارَيْنَا فِي الْهِلَالِ. وَالْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ وَهُوَ يَكُونُ تَكْذِيبًا وَتَشْكِيكًا. وَقَدْ يُقَالُ: لَمَّا كَانَ الْخِطَابُ لَهُمْ. قال: {تَتَمَارَى} أَيْ تَتَمَارَوْنَ. وَلَمْ يَقُلْ: تَمْتَرِي. فَإِنَّ التَّفَاعُلَ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَمَارَيَا. قَالُوا: وَالْخِطَابُ لِلْإِنْسَانِ. قِيلَ لِلْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَإِنَّهُ قال: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيْهِ فَقال: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} تُكَذِّبُ. كَمَا قال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. فَفِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ إحْسَانٌ إلَى عِبَادِهِ يَحْمَدُ عَلَيْهِ حَمْدَ شُكْرٍ وَلَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ تَعُودُ إلَيْهِ يَسْتَحِقُّ لِأَجْلِهَا أَنْ يُحْمَدَ عَلَيْهِ حَمْدًا يَسْتَحِقُّهُ لِذَاتِهِ. فَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ: فِيهَا إنْعَامٌ عَلَى الْعِبَادِ كَالثَّقَلَيْنِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا آيَاتٌ لِلرَّبِّ يَحْصُلُ بِهَا هِدَايَتُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ الَّذِي يَسْعَدُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَيَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ وَعَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَالْآيَاتُ الَّتِي بَعَثَ بِهَا الْأَنْبِيَاءَ وَأَيَّدَهُمْ بِهَا وَنَصَرَهُمْ. وَإِهْلَاكُ عَدُوِّهِمْ- كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ النَّجْمِ {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى}- تَدُلُّهُمْ عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. مَا بَشَّرُوا بِهِ وَأَنْذَرُوا بِهِ. وَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَ ذَلِكَ {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} قِيلَ: هُوَ مُحَمَّدٌ. وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ. فَإِنَّ اللَّهَ سَمَّى كُلًّا مِنْهُمَا بَشِيرًا وَنَذِيرًا. فَقَالَ فِي رَسُولِ الله: {إنْ أَنَا إلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تعالى: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وَقَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ: مُرَادٌ. يُقَالُ: هَذَا نَذِيرٌ أَنْذَرَ بِمَا أَنْذَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالْكُتُبُ الْأُولَى. وَقوله: {مِنْ النُّذُرِ} أَيْ مِنْ جِنْسِهَا. أَيْ رَسُولٍ مِنْ الرُّسُلِ الْمُرْسَلِينَ. فَفِي الْمَخْلُوقَاتِ: نِعَمٌ مِنْ جِهَةِ حُصُولِ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ وَالِاعْتِبَارِ وَالْمَوْعِظَةِ بِهَا. وَهَذِهِ أَفْضَلُ النِّعَمِ. فَأَفْضَلُ النِّعَمِ: نِعْمَةُ الْإِيمَانِ. وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ: فَهُوَ الْآيَاتُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا مَا يَحْصُل مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ. قَالَ تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وَقَالِي تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}. وَمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ إنْ كَانَ يَسُرُّهُ: فَهُوَ نِعْمَةٌ بَيِّنَةٌ. وَإِنْ كَانَ يَسُوءُهُ: فَهُوَ نِعْمَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُكَفِّرُ خَطَايَاهُ. وَيُثَابُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ. وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ لَا يَعْلَمُهَا {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. وَقَدْ قَالَ فِي الْحديث: «وَاَللَّهِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ. إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ».
وَإِذَا كَانَ هَذَا وَهَذَا: فَكِلَاهُمَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَكِلْتَا النِّعْمَتَيْنِ تَحْتَاجُ مَعَ الشُّكْرِ إلَى الصَّبْرِ. أَمَّا نِعْمَةُ الضَّرَّاءِ: فَاحْتِيَاجُهَا إلَى الصَّبْرِ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا نِعْمَةُ السَّرَّاءِ: فَتَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ فِيهَا.
فَإِنَّ فِتْنَةَ السَّرَّاءِ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَةِ الضَّرَّاءِ.
كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: اُبْتُلِينَا بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا. وَابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ فَلَمْ نَصْبِرْ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَعُوذ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ. وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى». وَالْفَقْرُ: يَصْلُحُ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَالْغِنَى: لَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ إلَّا أَقَلُّ مِنْهُمْ. وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْمَسَاكِينُ. لِأَنَّ فِتْنَةَ الْفَقْرِ أَهْوَنُ وَكِلَاهُمَا يَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ. لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي السَّرَّاءِ: اللَّذَّةُ. وَفِي الضَّرَّاءِ: الْأَلَمُ. اشْتَهَرَ ذِكْرُ الشُّكْرِ فِي السَّرَّاءِ وَالصَّبْرِ فِي الضَّرَّاءِ. قَالَ تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وَلِأَنَّ صَاحِبَ السَّرَّاءِ: أَحْوَجُ إلَى الشُّكْرِ وَصَاحِبَ الضَّرَّاءِ: أَحْوَجُ إلَى الصَّبْرِ. فَإِنَّ صَبْرَ هَذَا وَشُكْرَ هَذَا: وَاجِبٌ. إذَا تَرَكَهُ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ. وَأَمَّا صَبْرُ صَاحِبِ السَّرَّاءِ: فَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا إذَا كَانَ عَنْ فُضُولِ الشَّهَوَاتِ. وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَلَكِنْ لِإِتْيَانِهِ بِالشُّكْرِ- الَّذِي هُوَ حَسَنَاتٌ- يَغْفِرُ لَهُ مَا يَغْفِرُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ. وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الضَّرَّاءِ: لَا يَكُونُ الشُّكْرُ فِي حَقِّهِ مُسْتَحَبًّا إذَا كَانَ شُكْرًا يَصِيرُ بِهِ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ. وَقَدْ يَكُونُ تَقْصِيرُهُ فِي الشُّكْرِ: مِمَّا يَغْفِرُ لَهُ لِمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الصَّبْرِ. فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ جَمِيعًا: يَكُونُ مَعَ تَأَلُّمِ النَّفْسِ وَتَلَذُّذِهَا يَصْبِرُ عَلَى الْأَلَمِ وَيَشْكُرُ عَلَى النِّعَمِ. وَهَذَا حَالٌ يَعْسُرُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخِرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْعِمٌ بِهَذَا كُلِّهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُظْهِرُ الْإِنْعَامَ بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ لِأَكْثَرِ النَّاسِ. فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ مِنْهُ.
وَأَمَّا ذُنُوبُ الْإِنْسَانِ: فَهِيَ مِنْ نَفْسِهِ. وَمَعَ هَذَا فَهِيَ- مَعَ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ- نِعْمَةٌ وَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالْهُدَى وَالْإِيمَانِ. وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَحْسَنِ الدُّعَاءِ قَوْلُهُ «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي عِبْرَةً لِغَيْرِي وَلَا تَجْعَلْ أَحَدًا أَسْعَدَ بِمَا عَلَّمْتنِي مِنِّي». وَفِي دُعَاءِ الْقُرْآنِ {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} {لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} كَمَا فِيهِ {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا} أَيْ فَاجْعَلْنَا أَئِمَّةً لِمَنْ يَقْتَدِي بِنَا وَيَأْتَمُّ. وَلَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِمَنْ يُضِلُّ بِنَا وَيَشْقَى. والْآلَاءُ فِي اللُّغَةِ: هِيَ النِّعَمُ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الْقُدْرَةَ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَمَّا عَدَّدَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ- سُورَةِ الرَّحْمَنِ- نَعْمَاءَهُ وَذَكَّرَ عِبَادَهُ آلَاءَهُ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ. جَعَلَ كُلَّ كَلِمَةٍ مِنْ ذَلِكَ فَاصِلَةً بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ لِيُفْهِمَ النِّعَمَ ويقررهم بِهَا. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ وَالتِّرْمِذِي عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّحْمَنُ حَتَّى خَتَمَهَا. ثُمَّ قَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتًا؟ لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْكُمْ رَدًّا. مَا قَرَأْت عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ مَرَّةٍ- {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}- إلَّا قَالُوا: وَلَا بِشَيْءِ مِنْ نِعَمِك رَبَّنَا نُكَذِّبُ. فَلَك الْحَمْدُ».
وَاَللَّهُ تَعَالَى يُذَكِّرُ فِي الْقُرْآنِ بِآيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ. وَيُذَكِّرُ بِآيَاتِهِ الَّتِي فِيهَا نِعَمُهُ وَإِحْسَانُهُ إلَى عِبَادِهِ. وَيُذَكِّرُ بِآيَاتِهِ الْمُبَيِّنَةِ لِحِكْمَتِهِ تَعَالَى. وَهِيَ كُلُّهَا مُتَلَازِمَةٌ. فَكُلُّ مَا خَلَقَ: فَهُوَ نِعْمَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَلَى حِكْمَتِهِ. لَكِنْ نِعْمَةُ الرِّزْقِ وَالِانْتِفَاعِ بِالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَلَابِسِ: ظَاهِرَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ. فَلِهَذَا يُسْتَدَلُّ بِهَا كَمَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ. وَتُسَمَّى سُورَةَ النِّعَمِ. كَمَا قَالَهُ قتادة وَغَيْرُهُ. وَعَلَى هَذَا: فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ: الْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ الشُّكْرِ. مِنْ جِهَةِ أَسْبَابِهِ. فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى نِعْمَةٍ وَعَلَى غَيْرِ نِعْمَةٍ. وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَنْوَاعِهِ. فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْيَدِ. فَإِذَا كَانَ كُلُّ مَخْلُوقٍ فِيهِ نِعْمَةٌ: لَمْ يَكُنْ الْحَمْدُ إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَال. لِأَنَّهُ مَا مِنْ حَالٍ يَقْضِيهَا إلَّا وَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ. لَكِنْ هَذَا فَهْمُ مَنْ عَرَفَ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ النِّعَمِ. وَالْجَهْمِيَّة وَالْجَبْرِيَّةُ: بِمَعْزِلِ عَنْ هَذَا.
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَخْلُقُهُ: فَفِيهِ لَهُ حِكْمَةٌ. فَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ. وَالْجَهْمِيَّة أَيْضًا بِمَعْزِلِ عَنْ هَذَا. وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا تَعُودُ الْحِكْمَةُ إلَيْهِ. بَلْ مَا ثُمَّ إلَّا نَفْعُ الْخَلْقِ. فَمَا عِنْدَهُمْ إلَّا شُكْرٌ كَمَا لَيْسَ عِنْدَ الْجَهْمِيَّة إلَّا قُدْرَةٌ. وَالْقُدْرَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ نِعْمَةٍ وَحِكْمَةٍ: لَا يَظْهَرُ فِيهَا وَصْفُ حَمَدٍ كَالْقَادِرِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا يَنْفَعُ بِهِ أَحَدًا. فَهَذَا لَا يُحْمَدُ. فَحَقِيقَةُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة أَتْبَاعِ جَهْمٌ: أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ. فَلَهُ عِنْدُهُمْ مُلْكٌ بِلَا حَمْدٍ مَعَ تَقْصِيرِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ مُلْكِهِ. كَمَا أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الْحَمْدِ بِلَا مُلْكٍ تَامٍّ. إذْ كَانَ عِنْدَهُمْ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ. وَتَحْدُثُ حَوَادِثُ بِلَا قُدْرَتِهِ. وَعَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ تَامَّيْنِ. وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى حِكْمَتِهِ كَمَا هُوَ مَحْمُودٌ عَلَى قُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ.
وَقَدْ قال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَلَهُ الْوَحْدَانِيَّةُ فِي إلَهِيَّتِهِ وَلَهُ الْعَدْلُ وَلَهُ الْعِزَّةُ وَالْحِكْمَةُ. وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ إنَّمَا يُثْبِتُهَا السَّلَفُ وَأَتْبَاعُهُمْ. فَمَنْ قَصَّرَ عَنْ مَعْرِفَةِ السُّنَّةِ فَقَدْ نَقَصَ الرَّبَّ بَعْضَ حَقِّهِ. والجهمي الْجَبْرِيُّ لَا يُثْبِتُ عَدْلًا وَلَا حِكْمَةً وَلَا تَوْحِيدَ إلَهِيَّةٍ. بَلْ تَوْحِيدَ رُبُوبِيَّتِهِ. وَالْمُعْتَزِلِيُّ أَيْضًا لَا يُثْبِتُ فِي الْحَقِيقَةِ تَوْحِيدَ إلَهِيَّةٍ وَلَا عَدْلًا فِي الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَلَا عَزَّةً وَلَا حِكْمَةً فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ قَالَ: إنَّهُ يُثْبِتُ الْحِكْمَةَ بِمَا مَعْنَاهَا يَعُودُ إلَى غَيْرِهِ. وَتِلْكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ حِكْمَةً مِنْ فِعْلٍ لَا لِأَمْرِ يَرْجِعُ إلَيْهِ بَلْ لِغَيْرِهِ هُوَ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ قَاطِبَةً بِهَا لَيْسَ بِحَكِيمِ بَلْ سَفِيهٍ. وَإِذَا كَانَ الْحَمْدُ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ فَقَدْ ثَبَتَ: أَنَّهُ رَأْسُ الشُّكْرِ. فَهُوَ أَوَّلُ الشُّكْرِ. وَالْحَمْدُ- وَإِنْ كَانَ عَلَى نِعْمَتِهِ وَعَلَى حِكْمَتِهِ- فَالشُّكْرُ بِالْأَعْمَالِ هُوَ عَلَى نِعْمَتِهِ. وَهُوَ عِبَادَةٌ لَهُ لِإِلَهِيَّتِهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ حِكْمَتَهُ. فَقَدْ صَارَ مَجْمُوعُ الْأُمُورِ دَاخِلًا فِي الشُّكْرِ. وَلِهَذَا عَظَّمَ الْقُرْآنُ أَمْرَ الشُّكْرِ. وَلَمْ يُعَظِّمْ أَمْرَ الْحَمْدِ مُجَرَّدًا إذْ كَانَ نَوْعًا مِنْ الشُّكْرِ. وَشَرَعَ الْحَمْدَ- الَّذِي هُوَ الشُّكْرُ الْمَقُولُ- أَمَامَ كُلِّ خِطَابٍ مَعَ التَّوْحِيدِ. فَفِي الْفَاتِحَةِ: الشُّكْرُ وَالتَّوْحِيدُ. وَالْخُطَبُ الشَّرْعِيَّةُ لابد فِيهَا مِنْ الشُّكْرِ وَالتَّوْحِيدِ. وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ نَوْعَانِ. فَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ: فِيهَا الشُّكْرُ وَالتَّنْزِيهُ وَالتَّعْظِيمُ. وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَاَللَّهُ أَكْبَرُ: فِيهَا التَّوْحِيدُ وَالتَّكْبِيرُ. وَقَدْ قَالَ تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.